خالد محمـد الباقـــــر يكتب: على نـــار هادئـــــــة… الإعلاميون في مَهَبِّ الإهمال

رأي: خطوة برس
⭕ إنَّها لحقيقةٌ ساطعةٌ كالشمسِ في كبدِ السماءِ، لا يطالُها لُبسٌ ولا يُخالطها ريب؛ أنَّ المعركةَ الدائرةَ اليومَ على أرضِ السُّودانِ هي حربُ وعيٍ في صميمها، وصراعٌ إعلاميٌ بامتياز. فالسرديةُ هي الوقودُ الجديدُ للمدافع، والكلمةُ أشدُّ فتكًا من الرصاصةِ المُنطلقة. وفي خضمِّ هذا الأتون، كانَ لزامًا على الدَّولةِ ،أيَّ دولةٍ تخوضُ غِمارَ معركةِ البقاءِ هذه- أن تُعليَ من شأنِ هذا القطاعِ الحيوي، وأن تُحصِّنَ رِجالاتِه وصُنّاعَ أدواتِه. ولكنَّ المُفارقةَ الموجعةَ أنَّ الإعلامَ والإعلاميّين في بلادِنا قد باتوا في ذَيلِ القائمةِ، إنْ لم يكونوا خارجَها بالكلّيّة. لقد تَجلّتْ علاماتُ هذا الإهمالِ بجلاءٍ مُرعبٍ يَكشِفُ عن خَللٍ بنيويٍّ في منظومةِ الأولوياتِ الرّسميّة.
⭕ ففي الوقتِ الذي يَجِدُ فيهِ العدوُّ كافَّةَ السُبلِ لضخِّ التضليلِ وتشويهِ الحقائق، نَجِدُ جيشَ الإعلاميّين والصحفيّين الوطنيّين وقد تشتَّتَ شملُهم في أصقاعِ الأرضِ، ما بينَ نازحٍ داخلَ البلادِ يُقاومُ الجوعَ والعوز، ومُهاجِرٍ قَنِعَ بالخروجِ إلى القاهرةِ أو العواصمِ الإفريقيّةِ بحثًا عن مأوىً كريمٍ ودخلٍ يسدُّ الرَّمق. لقد توقّفتِ المرتباتُ، وانقطعتِ المُعيناتُ، وباتتِ المِهنةُ التي نذَرَ أصحابُها أنفسَهم لِصونِ الحقيقةِ والدفاعِ عن الوطنِ بقلمِهم، لا تجلبُ لصاحبِها سوى الشّقاءِ والبلاء. إنَّها المُعادلةُ الصِّفريةُ القاسية، التي تُلزِمُ المُبدعَ بالتّخلّي عن شغفِه وقضيّتِه، ليُصارعَ في سبيلِ لقمةِ العيشِ الكريمةِ لأطفالِه وأُسرته.
⭕ ومنذُ اندلاعِ حريقِ الفتنةِ، وهذا الجُهدُ الإعلاميُّ الوطنيُّ يتآكلُ تحتَ وطأةِ التّجاهل. فهل سألَ وزيرُ الإعلامِ، أو أيُّ مسؤولٍ في مَدارِ الدَّولةِ، نفسَه: “كيفَ يعيشُ هؤلاء؟” وكيفَ يُؤدّي الإعلاميُّ واجبَه الوطنيَّ وعبءُ الالتزاماتِ العائليّةِ يُثقِلُ كاهلَه، بينما جيبُه خاوٍ؟ لا نجدُ مؤتمرًا صحفيًّا واحدًا يناقشُ “تشرُّدَ وعوزَ وضياعَ” صُنّاعِ الكلمةِ، وكأنَّهم في معزلٍ عن النسيجِ الوطنيِّ أو أنَّ دورَهم باتَ هامشيًا لا يستحقُّ الإشارة.
⭕ إنَّ العجبَ كلَّ العجبِ أنَّ أغلبَ الإعلاميّين والصحفيّين الذين ظلُّوا مُتّكئين على ثغرِ الوطنِ، لم يَأْلُوا جُهدًا في خوضِ المعركةِ جنبًا إلى جنبٍ وكتفًا بكتفٍ مع القواتِ المسلّحةِ. سلاحُهم ليسَ البُندقيّة، بل القلمُ الرّصاصُ الذي لهُ قوّةُ الكلاشينكوف (الكلاش)، يوثِّقونَ ويُحلّلونَ ويُقاومونَ التضليلَ. لم يَفِرُّوا ولم يتخاذلوا، بل أجهدوا أنفسَهم بهواتفِهم البسيطةِ، مُقتطعينَ من قُوتِ أبنائهم ثمنَ الإنترنتِ، لِيُوصِلُوا الرّسالةَ عبرَ الصّحفِ والمواقعِ الإلكترونيّةِ، مُتحمّلينَ المخاطرَ الجسيمةَ في سبيلِ الحقيقةِ والوطن.
⭕ لقد أدَّوا واجبَهم بتفانٍ مُذهلٍ، إيمانًا منهم بأنَّ الإعلامَ المُنصِفَ والمُدافعَ هو الحِصنُ الأخيرُ للوطنِ والمُواطن. ولكن، هل وصلتهم رسالةُ شكرٍ بسيطةٍ، مجرَّدَ “كلمةِ وفاءٍ” تعترفُ بِتضحيتِهم؟!
⭕ إنَّ التجاهلَ المُزريَ لوضعِ الإعلاميّين ليسَ ظلمًا فرديًا فحسب، بل هو قِصَرُ نَظرٍ يضرُّ بمصلحةِ الدَّولةِ العليا في خوضِ حربِ البقاءِ. فكيفَ نتوقَّعُ انتصارًا إعلاميًا ونحنُ نُجرِّدُ جُندَنا من سلاحِهم وقوتِ يومِهم؟ إنَّ صَوْنَ كرامةِ الإعلاميِّ هو صَونٌ لكرامةِ الحقيقةِ والسّرديّةِ الوطنيّة.
⭕ آنَ الأوانُ لأن تستفيقَ الدَّولةُ من سُباتِها، وتُدركَ أنَّ الاستثمارَ في الإعلامِ ورجالِه هو اليومَ أَوْجَبُ من أيِّ استثمارٍ آخر، وأنَّ دَينَ الوفاءِ المُستحقَّ لهؤلاءِ المُكافحينَ ليسَ مجرَّدَ حافزٍ، بل هو ضرورةٌ وطنيّةٌ عاجلة يجبُ أن تُعالَجَ بقرارٍ حازمٍ لا يقبلُ التأجيل.




