الطيب سعد الدين يكتب : تداعيات الحرب !
حاولت أن أستدعي ذاكرتي لاقرأ بها الحاضر، ما يجري في بلادنا لا ينتهي باسكات صوت البندقية، أكثر ما يؤرق النفس ويدعو للتشاؤم الخوف من المستقبل عطفا على الراهن الحالي.
شيوع روح الحسد والكراهية وعدم احتمال الآخر أحالت حياتنا الى حجيم أشد وطأة من البندقية، يقال أن العلامة البروفيسور الراحل عبد الله الطيب ذكر أن في جزيرة العرب عشر قبائل إشتهرت بالحسد هاجرت منها تسع الى السودان ونحن جميعا أبناؤها،، جاء في مذكرات وزير مالية حكومة نميري إبراهيم منعم منصور أن والده ناظر قبيلة حمر أقام حفل وداع للخواجة بيتر هوق مأمور كردفان، فُجع الناظر بحديث الخواجة ( تأكدنا من خلال وجودنا بينكم أن الحسد صفة ملازمة للسودانيين).
يتفق من عاشوا العصر الذهبي للجنيه السوداني أن السودان يكاد يكون البلد الوحيد (ماضيه أفضل من حاضره).
قديما كان التواصل بين أطراف السودان حاضرا في قومية الوظيفة الحكومية، وقومية المدارس الحكومية، في محيط منطقتي (الفشاشوية) ريفي كوستي تلقينا التعليم على إيدي أساتذة من الشمالية وكسلا ودارفور مثلا المساعد الطبي سلفادور من جنوب السودان،الإنتماء كان للمهنة فأين ما تم نقلك تقوم بواجبك وتحظى بتقدير سكان المنطقة، لم أسمع بعبارة قبيلة فلان، التقييم وقتها كان قائما مثلا على الاناقة والشياكة والطرافة واللطف والشطارة والكرم، الخالة خميسة وزوجها وادي سعيد من جبال النوبة عاشوا مع أهل الوالدة في ندية وتراحم تكاد تجزم بوجود صلة دم بينهم
في مدينة كوستي يتجسد السودان الواسع ورغم التباين في السحنات والديانات والثقافات لكن لا يوجد أي إستعلاء من طرف على الآخر، التنافس ينحصر في كرة القدم وينتهي باعلان صافرة الحكم،، فالمساجد ترفع الآذان والكنائس تقرع الاجراس كل يمضي لعبادته ثم تجدهم شركاء في الافراح والمآتم والأسواق والأنس السمح واجترار اللحظات الجميلة
هذا حال كل المدن السودانية، لا توجد مدينة سودانية تمتلكها قبيلة فاغلبها أسسها التجار وهم قوم يقطنون اينما طاب رزقهم ويرجع الفضل لهم وللموظفين والعمال والسكة حديد والنقل النهري واللواري السفرية وهنا أمدرمان اذاعة جمهورية السودان،، جسدت كلها المعني الحقيقي للوحدة الوطنية الجاذبة،، هذا المصطلح الذي افرغ الساسة محتواه وصار في خبر كان.
المزاج السوداني رضع من ثدي الأغاني فهو مرهف للغاية يميل في طبعه للمرح ويسكره الكلام السمح، قطار الشوق متين ترحل تودينا نشوف بلداً حنان اهلها ترسى هناك ترسينا،،
وحين استبد الحنين بالشاعر كجراي وهو يكابد غربته في مدينة واو كتب:
ارتعاشاتك بتحكي قصة احلامك معاي…
ومن اقصى الشمال نشاطر محمد كرم الله وحشته،،،
وين حتى الطيف رحل خلاني ما طيب لي خاطر
ونمضي مع زيدان ورائعة التجاني
أشوف بس طرفك النعسان
تخوني القوة والشدة
يا سلام ده الماضي،،،
الآن
المواطن يموت في اليوم ألف مرة ومرة وهو يكابد حياة شبه مستحيلة،،
الحرب ليست وحدها المجرم الوحيد الذي مزق أوصال الوطن، فما لم نتخلى عن إقصاء الآخر ونتحلى بروح التسامح ونقبل بعضنا بعضا ونتسامى فوق أحزاننا فإن ليل الفجيعة سيطول.
شعب غاية آمانيه أن يعود لبيته، ومصدر رزقه، ومدرسته ومشفاه وشارعه وسوقه وميدانه، وحواشته وسعيته وطمأنينة تُنهي حالة الخوف التي تمزق أوصاله وتجعله نهباً لهاجس الموت المجاني بعد أن اصبحت الروح ترتجف تحت رحمة الطلقة
نحتاج إلى لحظة هدوء إلى هدنة مع الحياة إلى صمت يكتم ضجيج الروح إلى وسادة سلام تسند أحلامنا المتعبة إلى نغمة هادئة تغمُرنا بالسكينة
محبتي
الطيب سعد الدين
أم درمان أغسطس ٢٠٢٤م