حرب السودان بين الغبن والتشفي
رأي : خطوة برس
بقلم : محمد المؤيد مبارك المحامي
في سياق حرب السودان التي اندلعت موخرا ظهرت مشاعر متنوعة بين أفراد الشعب السوداني وبين القوى السياسية المختلفة، من ضمنها مشاعر الغبن والتشفي. هذه المشاعر تتولد نتيجة التوترات القديمة والخلافات المتراكمة بين الأطراف المتنازعة وبين الشعب والحكومة حيث
يشعر بعض السودانيين بالغُبن تجاه النخب السياسية ومتمردي الدعم السريع نتيجة الظلم والانتهاكات التب تعرضوا لها على مدى فترة الحرب اقتصاديًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا. تراكم الإحساس بالظلم عبر عقود من الحروب الأهلية والديكتاتوريات والسياسات غير العادلة التي أدت إلى سوء الأوضاع المعيشية.هذا الغبن يعكسه الإحساس بخيانة الثقة، حيث يعتقد الشعب أن الأحزاب ااسودانيه كان من المفترض أن تعمل لصالحه لكنها انشغلت بالصراعات على السلطة فظهرت
المشاعر الانتقامية أو “التشفي”و قد تكون رد فعل طبيعي لبعض الأفراد بسبب الصراعات الدموية والتجاوزات التي وقعت ضدهم أو ضد أحبائهم
بعض الفئات تشعر بالتشفي حيال معاناة الأطراف المتنازعة بسبب إحساسهم بأن هذه الأطراف متورطة في معاناتهم، أو لأنها مسؤولة عن العنف الذي شهدته البلاد.
في هذه الحالة، التشفي قد يأتي كنوع من “التنفيس” عن الألم والغبن المتراكم، وإن كان لا يقدم حلًا للأزمة، بل يزيدها تعقيدًا ويعمق الانقسامات.
هذه المشاعر تسهم في تأجيج النزاع وتعميق الانقسامات الاجتماعية، حيث يصبح من الصعب تحقيق المصالحة الوطنية في ظل استمرارية الشعور بالغبن والتشفي.
تحتاج البلاد إلى معالجة هذه الجروح عبر حوار وطني حقيقي يهدف إلى معالجة جذور المشكلة، وضمان العدالة والإنصاف، لإعادة بناء الثقة بين الشعب والأحزاب السياسيه
من الواضح أن الغبن والتشفي في السودان هما نتاج سنوات من الصراعات والتهميش، ويمثلان تحديًا إضافيًا أمام أي جهود للسلام المستدام والتعايش السلمي.
الغبن ليس مرتبطًا فقط بالصراع العسكري والسياسي، بل يتجذر أيضًا في المظالم الاجتماعية التي واجهتها بعض القبائل والمجموعات العرقية والمناطق المهمشة.
والتفاوت التنموي بين المدن الرئيسية (مثل الخرطوم) والمناطق الأخرى، خاصة في دارفور وجنوب كردفان، جعل السكان في هذه المناطق يشعرون بالغُبن، حيث تم إهمالهم في التخطيط التنموي والاقتصادي والخدمي، مما عزز الشعور بالعزلة والاستياء.
في السودان، يشكل هذا الغبن العرقي والقبلي تحديًا كبيرًا، حيث إن بعض الجماعات ترى أن لها حقوقًا غير معترف بها، وأنها لم تحصل على نصيبها من التنمية الوطنية، ما يزيد الشعور بعدم العدالة.
كاستجابة نفسية للألم الجماعي
والتشفي في هذا السياق يرتبط بحالة الألم الجماعي الذي عاشه الشعب السوداني، خاصة في المناطق التي عانت من الحروب الأهلية.
العديد من الأفراد يشعرون بأن القيادات العسكرية والسياسية التي كانت مسؤولة عن هذه المعاناة قد تتعرض الآن لنفس المصير الذي أوقعته على الشعب، مما يولد شعورًا بالرضا اللحظي، أو ما يُعرف بـ “التشفي”.
ومع ذلك، فإن هذا الشعور لا يعبر دائمًا عن رغبة في الانتقام، بقدر ما هو تعبير عن مشاعر القهر والإحباط، حيث يرى البعض أن النظام ذاته الذي أساء إليهم يدفع ثمن تصرفاته.و
هذه المشاعر المعقدة من الغبن والتشفي تؤدي إلى تفتيت النسيج الاجتماعي السوداني، حيث تُصبح الجماعات المختلفة في البلاد غير متماسكة، مع شعور كل مجموعة بأن لديها أسبابًا مشروعة للشعور بالغبن، ما يؤدي إلى انعدام الثقة بين الأطراف المختلفة.
هذا التشظي يجعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة للسلام، حيث أن المصالحة الحقيقية تتطلب تجاوز هذه المشاعر، وهو ما لن يحدث دون معالجة الأسباب الجذرية للغبن وإيجاد حلول عادلة.
العدالة الانتقالية قد تكون أداة فعالة للتعامل مع الغبن والتشفي، وذلك من خلال تقديم آلية لتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا وتعويض المتضررين.
إن إجراء محاكمات عادلة ومحاسبة المتورطين في الجرائم يعيد بناء الثقة، ويخفف من مشاعر التشفي لدى الضحايا، حيث يشعرون بأن هناك آلية رسمية وقانونية تنتصر لهم.
كما أن إنشاء لجان حقيقة ومصالحة يمكن أن يساعد على خلق مساحة آمنة للحوار، حيث يمكن للأطراف المختلفة التعبير عن آلامها وغُبنها، والعمل على التوصل لحلول وسطى يمكن أن تؤسس لسلام دائم.
للتخفيف من مشاعر الغبن والتشفي، من الضروري على السودان السعي إلى عملية سلام شاملة ومتكاملة، تأخذ في الحسبان مطالب الشعب وحقوق المناطق المهمشة، مع إشراك الجميع في الحوار الوطني ,كما أن دور المجتمع المدني والمنظمات الإقليمية والدولية مهم لضمان مراقبة وتنفيذ هذه الجهود بشكل فعال، ما يعزز الثقة ويشجع على التكاتف بين السودانيين لمستقبل أفضل.
الحرمان الاقتصادي لعب دورًا رئيسيًا في تعزيز الشعور بالغبن بين الشعب السوداني، خاصةً في المناطق التي تعرضت للإهمال التنموي. فالاقتصاد في السودان ظل مرتبطًا بشكل كبير بالمصالح السياسية للنخبة الحاكمة، حيث تتركز المشاريع التنموية في مناطق معينة، بينما تُترك مناطق أخرى تعاني من الفقر وانعدام الخدمات الأساسية،هذا التفاوت الاقتصادي يغذي الغبن لدى المجتمعات المهمشة، ويؤدي إلى تصاعد مشاعر التشفي في حال تعرضت الأطراف المستفيدة من الوضع الاقتصادي لانتكاسات، حيث يشعر الناس بأنهم ينتصرون لأنفسهم ولو رمزيًا على عقود من الاستغلال.
السودان شهد تاريخيًا صراعات متعددة الأبعاد، بدءًا من الصراعات القبلية إلى الحروب الأهلية والانقلابات
هذا التاريخ من الصراعات ترك أثرًا عميقًا في النفوس، حيث باتت بعض المجموعات تعاني من إرث طويل من القهر والاستهداف، مما يُعمّق الغبن ويُصعّب تجاوز الماضي.الصراعات التي مرت بها البلاد لم تكن مجرد حروب عسكرية، بل خلفت آثارًا نفسية عميقة خلقت حالة من الإحباط وعدم الثقة في الدولة ككل
لعل الشعور بالتشفي يمثل عقبة أمام التوجه نحو بناء دولة حديثة قائمة على أسس العدالة والمساواة؛ إذ قد يؤدي إلى تحفيز روح الانتقام بدلًا من الإصلاح، خاصةً إذا تم التعامل مع الأطراف المتنازعة برغبة في تصفية الحسابات في مثل هذا المناخ، يمكن أن تتحول مؤسسات الدولة إلى أدوات انتقامية بدلًا من أن تكون آليات لتحقيق العدالة والسلام، مما يقود إلى دورة من العنف والعنف المضاد، تعرقل عملية التحول الديمقراطي.
الإعلام له دور كبير في تعزيز مشاعر الغبن أو التشفي، حيث يُسهم في نقل الأخبار عن الصراع، وغالبًا ما يكون هناك تحيز في التغطية بناءً على الأجندات السياسية أو القبلية,في ظل التصعيد الإعلامي، يُصبح من السهل تأجيج مشاعر الكراهية، حيث يتم التركيز على الانتهاكات والجرائم، مما يزيد من شعور الغبن، ويعزز التشفي لدى المتضررين
ايضا الزعماء الدينيون والمجتمعيون يمكن أن يلعبوا دورًا مهمًا في تهدئة مشاعر الغبن والتشفي، وذلك من خلال نشر قيم التسامح، والعدالة، والمصالحة بالنظر إلى الأثر الاجتماعي والديني في السودان، قد يكون من المفيد تشجيع خطابات المصالحة، وتوفير مساحة لممارسة طقوس الغفران والمصالحة، مما يساهم في تهدئة النفوس وإعادة بناء الثقة،يمكن كذلك إشراك هؤلاء القادة في حوار وطني شامل ليكونوا جسرًا للتفاهم بين الأطراف
خلاصة:-
إن مواجهة الغبن والتشفي في السودان تتطلب نهجًا متعدد الأبعاد يشمل الإصلاح السياسي، والعدالة الانتقالية، والتنمية الاقتصادية المتوازنة، بالإضافة إلى تعزيز القيم الاجتماعية والدينية التي تدعم التسامح والمصالحة. من دون معالجة هذه المشاعر وإيجاد حلول شاملة لها، سيظل السودان معرضًا لدورات جديدة من الصراع وعدم الاستقرار.