هشام احمد المصطفي يكتب:الكلام الدغري .. نداء لإعمار ما دمرته الحرب في ولاية الجزيرة

مقدمة
الحرب لا تأتي إلا بالخراب، ولا تخلّف سوى الجراح العميقة في جسد الوطن. وولاية الجزيرة، تلك الولاية المعطاءة، التي طالما كانت سلة غذاء السودان، ومصدرًا للعلم والمعرفة والثقافة، لم تكن بمنأى عن نيران الحرب التي عصفت بالبلاد. فقد نالت منها آلة التدمير، فهدمت بنيتها التحتية، وشردت أهلها، وأطفأت شموع الأمل في عيون أبنائها، بعد أن كانت مثالًا في الاستقرار، والإنتاج، والعطاء.
واليوم، يقف أهل الجزيرة، وكل أبناء السودان الشرفاء، أمام واجب وطني وإنساني عظيم: إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وبناء ما تهدّم، ورد الجميل لهذه الأرض الطيبة.
ولاية الجزيرة: قلب الوطن النابض
كانت ولاية الجزيرة دومًا من أكثر الولايات حيوية وإنتاجًا، بفضل مشروع الجزيرة الزراعي الضخم، الذي يُعد أكبر مشروع مروي في إفريقيا. وكانت الجزيرة أيضًا رائدة في مؤسساتها التعليمية والصحية، وفي نسيجها الاجتماعي المتماسك. لقد كانت رمزًا للعيش المشترك، والتسامح، والاعتدال، حتى اجتاحتها الحرب، فأوقفت عجلة الحياة، وزرعت الألم في كل بيت وشارع وزاوية.
لقد لحقت بالولاية أضرار جسيمة؛ فتعطلت المؤسسات الخدمية، وانقطعت الكهرباء، وانهارت المستشفيات والمدارس، وتوقفت الزراعة والصناعة، وتعرضت الأسواق للنهب، والأحياء السكنية للخراب، والمواطن للخذلان والضياع.
الدمار في البنية التحتية
لم تفرق الحرب بين مدرسة أو مستشفى، بين مسجد أو سوق، بل طال الدمار كل شيء. تضررت شبكة الطرق التي تربط بين مدن الولاية وقراها، وانهارت الجسور، وتعطلت وسائل النقل، مما أدى إلى عزلة مناطق بأكملها. أُغلقت المدارس، وخرجت المستشفيات عن الخدمة، وانهارت المباني الحكومية، وتراجع النشاط الاقتصادي إلى أدنى مستوياته.
أما المؤسسات التعليمية، فقد توقفت بالكامل، وحُرم آلاف التلاميذ والطلاب من التعليم، وتعرضت الجامعات للنهب والتخريب، فخسر الوطن ركيزة من ركائز بنائه المستقبلي.
الآثار الإنسانية والاجتماعية
ما خلّفته الحرب في ولاية الجزيرة لا يُقاس بالخسائر المادية وحدها، بل يمتد إلى الأبعاد الإنسانية والاجتماعية. فآلاف الأسر أصبحت بلا مأوى، واضطر كثير من المواطنين للنزوح أو اللجوء، وتقطعت السبل بكثير من المرضى وكبار السن، وازدادت معاناة النساء والأطفال في ظل انعدام الخدمات الأساسية.
المراكز الصحية أصبحت غير قادرة على تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات، والمياه النظيفة أصبحت حلمًا بعيد المنال، وانتشرت الأمراض، وتفاقمت الأزمات، وسط صمت دولي ومحلي مؤلم.
نداء إلى الضمير الوطني والإنساني
إن نداءنا اليوم ليس مجرد كلمات، بل صرخة استغاثة من قلب الجزيرة المجروح، من أهلها الذين صبروا كثيرًا. نناشد الدولة السودانية، بكل مؤسساتها، والمجتمع الدولي، والمنظمات الإنسانية، وأبناء الوطن في الداخل والخارج، أن يجعلوا إعادة إعمار ولاية الجزيرة أولوية قصوى.
فالجزيرة ليست مجرد ولاية؛ إنها قلب الوطن النابض، وعموده الفقري، ومفتاح أمنه الغذائي، والاستقرار المجتمعي فيه.
خطة الإعمار: البداية والمسار
ينبغي أولًا إجراء مسح ميداني شامل، لتحديد حجم الأضرار في كل القطاعات: التعليم، الصحة، الزراعة، البنية التحتية، السكن، والكهرباء. ويجب أن يتم هذا التقييم بشفافية، وبمشاركة الجهات الرسمية والمجتمع المحلي.
إعمار الطرق، وتأهيل الجسور، وتشغيل محطات المياه والكهرباء، وإصلاح المؤسسات الصحية والتعليمية، يجب أن يكون في مقدمة الأولويات، حتى تعود الحياة الطبيعية تدريجيًا إلى المدن والقرى.
يجب تخصيص برامج إسعافية عاجلة للأسر التي فقدت منازلها أو مصادر دخلها، تشمل توفير السكن المؤقت، والغذاء، والعلاج، والدعم النفسي والاجتماعي، خاصة للنساء والأطفال.
إعادة تشغيل المشروع الزراعي العملاق تتطلب صيانة قنوات الري، وتوفير المدخلات الزراعية، ودعم المزارعين تقنيًا وماليًا. إن هذا المشروع هو شريان الحياة للمنطقة وللسودان ككل.
لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار حقيقية دون مصالحة مجتمعية. لذا يجب تعزيز مبادرات الحوار، وبناء الثقة، ونبذ الجهوية والعنف، والعمل على ترميم العلاقات الاجتماعية التي تضررت بفعل الحرب.
دور الشباب في البناء
شباب الجزيرة هم عماد الإعمار، ووقود النهضة. يجب تدريبهم وتمكينهم، وإشراكهم في ورش العمل، ومشروعات البناء، وتوفير فرص عمل ضمن مشاريع الإعمار، وتحفيزهم على المبادرات التطوعية لإعادة الحياة إلى المدارس، والمراكز الصحية، والأسواق، والبيئة العامة.
الدولة والمجتمع الدولي: المسؤولية المشتركة
على الحكومة السودانية أن تتحمل مسؤولياتها الكاملة تجاه ما جرى في الجزيرة، وأن تضع خطة قومية محكمة، تشارك فيها كل الأطراف، لتمويل وإدارة عملية الإعمار.
كما يجب على المنظمات الإقليمية والدولية، وعلى الدول الشقيقة والصديقة، أن تبادر بتقديم الدعم الفني والمادي، بما يليق بحجم الكارثة
نداء إلى أبناء الجزيرة في المهجر
إلى أبناء الجزيرة الذين غادروها للرزق أو الدراسة أو العمل في الخارج، آن أوان الوفاء. لتكنوا عونًا لأهلكم في محنتهم، بالمساهمة المباشرة، أو عبر المبادرات الخيرية، أو حتى بالكلمة الداعمة والمبادرة البنّاءة. فالجزيرة كانت وستظل بيتكم الكبير، وأياديكم مطلوبة في مرحلة الإعمار.
خاتمة
إن ما حدث في ولاية الجزيرة جرح غائر في جسد الوطن، لكنه ليس نهاية الأمل. ففي كل زاوية من زوايا الولاية روح لا تُهزم، وفي كل شبر منها قصة صمود. ولن تنهض الجزيرة إلا بتكاتف الجميع، دولة وشعبًا، داخل السودان وخارجه.
فلنُعِد الحياة إلى الجزيرة، فسلام السودان يبدأ من قلبها، ونهضته تنطلق من أرضها، وأمله في المستقبل مرهون بإعادة إعمارها.