خالد محمــد الباقـــــر يكتب: علـى نـــار هادئـــــــة … يوميات مواطن في مطاردة الخبز والكرامة

رأي:خطوة برس
⭕ عندما تندلع الحرب، لا تقتصر الخسارة على المدن المهدمة والأرواح التي تزهق، بل تمتد لتشمل شيئاً أعمق: روتين الحياة الطبيعي. في زمن القذائف والنزوح، يتحوّل المواطن العادي، الذي كان يوماً ما موظفاً أو تاجراً أو حرفياً، إلى باحث دائم عن مجرد البقاء، في سباق محموم ضد النقص، والاستغلال، واليأس، ليصبح كل صباح رحلة جديدة لإعادة تعريف الحياة.
⭕ يبدأ يوم “أبو أحمد” النازح كآلاف غيره قبل شروق الشمس. الاستيقاظ ليس رفاهية، بل ضرورة تفرضها قائمة طويلة من المتطلبات العاجلة؛ لم يعد الأمر يتعلق بالتخطيط للمستقبل، بل بتأمين وجبة اليوم لأطفاله الأربعة. تتجه خطواته نحو مخبز بعيد، حيث يقف في طابور لا يقل عن ساعتين تحت أشعة الشمس أو لسعات البرد. كل قطعة خبز تُنال بجهد مضاعف، فالمواد الأساسية شحيحة، والأسعار تضاعفت عشرات المرات، وتبقى معركة الرغيف هي الامتحان الأول الذي يجب اجتيازه. بعد تأمين الخبز، تبدأ جولته اليومية بحثاً عن أي عمل. قد يكون حمّالاً في سوق عشوائي، أو عامل بناء يتقاضى أجراً زهيداً بالكاد يغطي نصف احتياجات اليوم. يدرك أبو أحمد أن أصحاب الأعمال يستغلون حاجة النازحين الملحة، فيدفعون أقل مقابل أطول ساعات عمل، لكنه يبتلع مرارة القهر ليعود بشيء لأبنائه، مؤمناً بأنّ: “أنا لا أحارب رصاصة، أنا أحارب الجوع في عيون أبنائي. تلك هي حربنا اليومية الحقيقية.”
⭕ وإذا كان تأمين القوت قاسياً، فإن تأمين المأوى هو طاعون النزوح. لقد ترك أبو أحمد منزله الذي قضى عمره في بنائه ليجد نفسه رهينة لجشع لا يرحم. بعد التنقل بين مراكز الإيواء المكتظة، اضطر لدفع مبلغ خيالي لإيجار غرفة صغيرة أو حتى قبو رطب، لا تصلح لحياة كريمة. هنا يظهر دور تجار وسماسرة الأزمات. هؤلاء لا يرون في النزوح مأساة، بل “فرصة استثمارية”. يستغلون خوف الناس ويضاعفون إيجارات المنازل الفارغة بشكل جنوني، ويطلبون مبالغ تأمين وإيجار لشهور مقدمة، وكأنهم يبيعون الحياة نفسها. دفع أبو أحمد كل ما تبقى لديه من مدخرات لـ “سمسار أزمة” لم يكن يوماً يملك سوى مفتاح بيت مستأجر، لكنه الآن يملك مصير عائلة. ينام أبو أحمد وزوجته وأبناؤه متلاصقين في مساحة ضيقة، تحيط بهم رائحة العفن والأمل المرجأ. معاناته مزدوجة؛ ألم الفقد، وذل الحاجة، وغضب العجز عن حماية أسرته من استغلال المنتفعين من دمار الوطن.
⭕ في خضم هذا المشهد القاتم، يبقى الصمود الإنساني هو النور الوحيد. دور أبو أحمد لا يقتصر على جلب المال والطعام، بل يمتد إلى واجب أصعب: زرع الأمان والطمأنينة في نفوس أطفاله. يجلس في المساء ليحكي لهم قصصاً عن الأمان الذي سيأتي، وعن بيوتهم التي سيعودون إليها يوماً ما، حتى لو كانت الكذبة البيضاء هي الملاذ الأخير. تحاول زوجته، رغم شح الإمكانيات، أن تمنح الغرفة القذرة شيئاً من الدفء والترتيب، لتثبت أن الحرب لم تنتصر بعد على روح البيت والأسرة. يوميات المواطن النازح في زمن الحرب هي شهادة حية على التضحية والصبر، وعلى الوجه الآخر للبؤس: تجارة القلوب والظروف. هي صرخة مكتومة تكشف أن الحرب الحقيقية ليست فقط بين الخير والشر ، بل هي صراع يومي يخوضه الأب المنهك ليحافظ على كرامة من يحب، في وجه الرصاص والقذائف، وفي وجه سماسرة الأزمات الذين يبيعون الهواء مقابل ثمن الحياة.






